تربية الأطفال (6)
ويصحبهم صلي الله عليه وسلم في الطريق واعظًا ومعلمًا على قدر عقولهم:
الطفل من حقه أن يصحب الكبار ليتعلم منهم، فتتغذى نفسه، ويتلقح عقله بلقاح العلم والحكمة، والمعرفة والتجربة، فتتهذب أخلاقه، وتتأصل عاداته.
وقد كان النبي صلي الله عليه وسلم قدوة في ذلك، فعلمنا أنه صحب أنسًا، وكذلكم صحب أبناء جعفر ابن عمه، والفضل ابن عمه. وها هو عبد اللَّه بن عباس، ابن عمه صلي الله عليه وسلم يسير بصحبة النبي صلي الله عليه وسلم على دابته، فيستفيد النبي صلي الله عليه وسلم من تلك الصحبة في الهواء الطلق، والذهن خالٍ، والقلب منفتح، فيعلِّمه كلمات، على قدر سنِّه واستيعابه، في خطاب مختصر ومباشر وسهل، مع ما يحمله من معان عظيمة يسهلُ على الطفل فهمها واستخلاصها،
يقول: "
يا غلام، إني أعلمك كلمات، احفظ اللَّه يحفظك، احفظ اللَّه تجده تجاهك، إذا سألتَ فاسأل اللَّه، وإذا استعنت فاستعن باللَّه، واعلم أن الأمة لو اجتمعت على أن ينفعوك بشيء؛ لم ينفعوك إلا بشيء قد كتبه اللَّه لك، ولو اجتمعوا على أن يضروك بشيء، لم يضروك إلا بشيء قد كتبه اللَّه عليك، رُفعت الأقلام وجفَّت الصحف".
ويستخدم صلي الله عليه وسلم العبارات الرقيقة في محادثتهم لاستمالة قلوبهم:
من عوامل بناء الثقة في الطفل، ورفع روحه المعنوية وحالته النفسية؛ أن يُنادَى باسمه، بل بأحسن أسمائه، أو بكنيته، أو بوصف حسنٍ فيه. وقد كان رسول اللَّه صلي الله عليه وسلم قدوةً في ذلك؛ فتارة ينادي الصبي بما يتناسب مع صغره، فيقول: "يا غلام، إني أعلمك كلمات". و"يا غلام سم اللَّه، وكُلْ بيمينك". و"يا غلام أتأذن لي أن أعطي الأشياخ؟" وهكذا.
وتارة يناديه بقوله: "يا
بنيَّ". كما قال لأنس لمَّا نزلت آية الحجاب: "وراءك يا بني". وقال صلي الله عليه وسلم عن أبناء جعفر ابن عمه أبي طالب: "ادعوا لي بني أخي". وسأل أمهم عن صحتهم فقال: "ما لي أرى أجسام بني أخي ضارعة تصيبهم الحاجة؟". وتارةً أخرى يناديهم صلي الله عليه وسلم بالكُنية، فالكنية تكريم وتعظيم، فكان يقول للطفل الصغير الفطيم: "يا أبا عمير، ما فعل النغير؟" لطائر صغير كان يلعب به فمات. وقد كان أصحاب النبي صلي الله عليه وسلم ينادون مَن وُلِد في الإسلام من أب مسلم بقولهم: يا ابن أخي، فقد مدح المسيب البراء بن عا------ بصحبة النبي صلي الله عليه وسلم وبيعته فقال له: "يا ابن أخي، إنك لا تدري ما أحدثنا بعده". وعبد الرحمن بن عوف رضي الله عنه يقول للشاب الذي سأله عن أبي جهل: يا ابن أخي، وما تصنع به؟ وكان يريد أن يقتله في غزوة بدر، وقد كان.
ويأمر صلى الله عليه وسلم بتلقين الطفل كلمة التوحيد:
عن جندب بن عبد اللَّه قال: "كنا مع النبي صلى الله عليه وسلم ونحن فتيان حزاورة فتعلمنا الإيمان قبل أن نتعلم القرآن، ثم تعلمنا القرآن فازددنا به إيمانًا". فعلمهم النبي صلى الله عليه وسلم الإيمان قبل أن يعلمهم القرآن، والإيمان كما بالحديث: "بضع وسبعون شعبة، أو بضع وستون شعبة، فأفضلها قول: لا إله إلا اللَّه، وأدناها إماطة الأذى عن الطريق، والحياء شعبة من الإيمان".
تربية الأطفال (7)
ويقطع صلى الله عليه وسلم خطبته ويترك منبره ليرحم عثرتهم:
عن عبد اللَّه بن بريدة عن أبيه قال: كان رسول اللَّه صلى الله عليه وسلم يخطبنا إذ جاء الحسن والحسين عليهما قميصان أحمران يمشيان ويعثران، فنزل رسول اللَّه صلى الله عليه وسلم من المنبر فحملهما ووضعهما بين يديه، ثم قال: "صدق اللَّه إنما أموالكم وأولادكم فتنة" {التغابن: 15}، فنظرت إلى هذين الصبيين يمشيان ويعثران فلم أصبر حتى قطعت حديثي ورفعتهما". صلى اللَّه عليك يا رسول اللَّه.
ويهتم صلى الله عليه وسلم بتهذيب مظهرهم وحلاقتهم:
عن نافع عن ابن عمر أن النبي صلى الله عليه وسلم رأى صبيًا قد حُلق بعض شعر رأسه وتُرك بعضه، فنهاهم عند ذلك وقال: "احلقوه كله أو اتركوه كله". إن رسولنا صلى الله عليه وسلم لا يحب تشويه منظر الطفل، ولا تشبيه مظهره بمظهر أبناء الكفار، ولا أن يكون حبنُّا لأطفالنا دافعًا لنا أن نفعل فيهم الأفاعيل، وإنما أراد لأبناء المسلمين أن يكون لهم مظهرٌ مميز وشخصية مستقلة، غير مقلدة ولا محاكية لشخصيات غير مسلمة كما يُرى في واقع كثير من الناس اليوم إلا من عافاه اللَّه.
ويشرف بنفسه صلى الله عليه وسلم على حلاقتهم:
عن عبد اللَّه بن جعفر- رضي اللَّه عنهما - أن النبي صلى الله عليه وسلم أمهل آل جعفر ثلاثًا أن يأتيهم - يعني بعد موته - ثم أتاهم فقال: "لا تبكوا على أخي بعد اليوم" يريد إنهاء الحِدَاد عليه، ثم قال: "ادعوا لي بني أخي". فجيء بنا كأنا أفرخ، فقال: "ادعوا لي الحلاق". فأمره فحلق رءوسنا
. وهذا فيه هَدْيٌ وإرشاد للآباء أن يُشرفوا بأنفسهم على حلاقة أبنائهم، ويقرروا متى يحلقونه ومتى يتركونه، ولا يتركوا للأبناء الحرية في ذلك، فربما قلدوا أصحاب "القُصة" وصنعوا مثل أرباب "الشوشة"!! وتركوا هَدْي المصطفى صلى الله عليه وسلم .
ويحملهم صلى الله عليه وسلم على عاتقه وعلى دابته:
عن البراء قال: رأيت النبي صلى الله عليه وسلم والحسين على عاتقه وهو يقول: "اللهم إني أحبه فأحبه". وعن عبد اللَّه بن جعفر أيضًا قال: كان رسول الله صلى الله عليه وسلم إذا قدم من سفر تُلُقِّيَ بصبيان أهل بيته، قال: وإنه جاء من سفر فسُبِق بي إليه فحملني بين يديه، ثم جيء بأحد ابني فاطمة الحسن والحسين رضي اللَّه عنهم فأردفه خلفه، قال: فأُدخلنا المدينة ثلاثة على دابة. وحمل صلى الله عليه وسلم الحسن والحسين على عاتقيه (كتفيه)، وقال: "نِعم الراكبان هما، وأبوهما خير منهما".
ويبحث عنهم صلى الله عليه وسلم إذا فقدهم:
إن الأطفال نعمة من اللَّه سبحانه وتعالى، والذي يعيش مع هذه النعمة ويحس بها ويرى أثرها يجد نفسه في لهفة لرؤية الأطفال ومداعبتهم، والبحث عنهم عند فقدهم، وهكذا كان سيد ولد آدم؛ محمد صلى الله عليه وسلم . عن أبي هريرة رضي الله عنهقال: خرج رسول اللَّه صلى الله عليه وسلم إلى سوق بني قينقاع متكئًا على يدي فطاف فيها ثم رجع فاحتبى (أي جلس على مقعدته وهو يشبِّك ذراعيه حول ركبتيه) في المسجد، وقال: "أين لَكَاع؟ ادعوا لي لكاع"، فجاء الحسن عليه السلام فاشتد حتى وثب في حبوته، فأدخل صلى الله عليه وسلم فمه في فمه، ثم قال: "اللهم إني أحبه فأحبه وأحب من يحبه (ثلاثًا").
قال أبو هريرة: ما رأيت الحسن إلا فاضت عيني.
ولَكَاع وَلُكَع هو الصغير قليل الجسم، وتطلق على قليل العلم الغبي الأحمق.
تربية الأطفال (
ويبشرهم (صلى الله عليه وسلم ) بالجنة إذا ماتوا صغارًا:
عن عائشة أم المؤمنين رضي اللَّه عنها قالت: دُعي رسول (صلى الله عليه وسلم ) إلى جنازة غلام من الأنصار، فقلت: يا رسول الله، طوبى لهذا، عصفور من عصافير الجنة، لم يعمل السوء ولم يدركه. قال: «أوَ غير ذلك يا عائشة؟ إن اللَّه خلق للجنة أهلاً خلقهم لها وهم في أصلاب آبائهم، وخلق للنار أهلاً خلقهم لها وهم في أصلاب آبائهم» .
وقال (صلى الله عليه وسلم ) : «رأيت الليلة رجلين أتياني فأخذا بيدي فأخرجاني إلى الأرض المقدسة …» إلى أن قال: «قالا: انطلق، فانطلقتُ، فإذا روضة خضراء، وإذا فيها شجرة عظيمة، وإذا شيخ في أصلها حوله صبيان» إلى أن قال: «إنكما طوفتماني منذ الليلة، فأخبِراني عما رأيت. قالا: نعم … قال: وأما الشيخ الذي رأيت في أصل الشجرة فذاك إبراهيم عليه السلام، وأما الصبيان الذين رأيتَ فأولاد الناس».
إذَن فأولاد المسلمين الذين ماتوا ولم يبلغوا الحلم؛ يكفلهم الخليل إبراهيم (صلى الله عليه وسلم ) وزوجته سارة رضي اللَّه عنها، ويقومان على مصالحهم حتى يردوهم إلى آبائهم يوم القيامة.
عن أبي هريرة قال: قال رسول (صلى الله عليه وسلم ) : «أطفال المؤمنين في جبل في الجنة يكفلهم إبراهيم وسارة حتى يردوهم إلى آبائهم يوم القيامة»
أما أطفال المشركين: فقد أخبر نبينا (صلى الله عليه وسلم ) بأنهم في الجنة يكونون فيها خدمًا لأهلها. عن أنس رضي الله عنه قال: قال رسول اللَّه (صلى الله عليه وسلم ) : «أطفال المشركين خدم أهل الجنة»
ويبشّر (صلى الله عليه وسلم ) بشفاعتهم لأبويهم إذا صبروا على فقْدِهِم:
عن أبي حسان قال: قلت لأبي هريرة: إنه قد مات لي ابنان، فما أنت محدِّثي عن رسول اللَّه (صلى الله عليه وسلم ) بحديث تُطيِّب به أنفسنا عن موتانا؟ قال: «نعم: صغارهم دعاميص الجنة (صغار أهل الجنة) يتلقَّى أحدهم أباه، أو قال: أبويه، فيأخذ بثوبه، أو قال: بيده، كما آخذ أنا بِصَنِفَةِ (طرف) ثوبك هذا، فلا يتناهى، أو قال: فلا ينتهي (فلا يتركه) حتى يُدخِله اللَّه وإيَّاه الجنة»
وعن أبي هريرة رضي الله عنه أن النبي (صلى الله عليه وسلم ) قال: «ما من مسلمَيْن يموت لهما ثلاثة من الولد لم يبلغوا الحنْث، إلا أدخلهما اللَّه وإياهم بفضل رحمته الجنة، وقال: يقال لهم: ادخلوا الجنة، قال فيقولون: حتى يجيئ أبوانا، قال: ثلاث مرات فيقولون مثل ذلك، فيقال لهم: ادخلوا الجنة أنتم وأبواكم».
بل يخبر (صلى الله عليه وسلم ) بتلقيهم لأهلهم على أبواب الجنة يوم القيامة، قال رسول اللَّه (صلى الله عليه وسلم ) : «ما من مسلم يموت له ثلاثة من الولد لم يبلغوا الحنث إلا تلقوه من أبواب الجنة الثمانية من أيها شاء دخل»
ويبشر (صلى الله عليه وسلم ) من حُرِم الأولاد في الدنيا بهم في الآخرة:
عن أبي سعيد رضي الله عنه قال: قال رسول (صلى الله عليه وسلم ) : «المؤمن إذا اشتهى الولد في الجنة كان حمله ووضعه وسِنُّه في ساعة واحدة كما يشتهي»
قال المناوي في «فيض القدير»: ولا تعارض بينه وبين خبر العقيلي بسند صحيح: «إن الجنة لا يكون فيها ولد»؛ لأن ذلك لمن لم يشته، فلا يولد له، أما إذا اشتهى فكما بين الحديث. قُلْتُ: وهذا مصداق قول الله سبحانه: {وَفِيهَا مَا تَشْتَهِيهِ الأَنفُسُ وَتَلَذُّ الأَعْيُنُ وَأَنتُمْ فِيهَا خَالِدُونَ} [الزخرف: 71].
تربية الأطفال (9)
وكان (صلى الله عليه وسلم ) يرحم بكاء الطفل في الصلاة فيخففها، ويحث أئمة المساجد على تخفيف الصلاة لأجلهم:
عن أنس رضي الله عنه قال: ما صليت وراء إمام قَط أخف صلاة ولا أتم من النبي (صلى الله عليه وسلم ) ، وإن كان ليسمع بكاء الصبي فيخفف عنه مخافة أن تُفتَن أمه.
ويؤكد (صلى الله عليه وسلم ) ذلك بنفسه فيقول: «إني لأدخل الصلاة وأنا أريد أن أطيلها فأسمع بكاء الصبي فأتجاوز في صلاتي مما أعلم من شدة وَجْد أمه من بكائه»
عن أبي هريرة أن النبي (صلى الله عليه وسلم ) قال: «إذا أمَّ أحدكم الناس فليخفف فإن منهم الصغير والكبير والضعيف والمريض، فإذا صلى وحده فليصل كيف يشاء».
ويناديهم (صلى الله عليه وسلم ) بكنيتهم تكريمًا لهم:
يقـول أنس رضي الله عنه: كان رسول اللَّه (صلى الله عليه وسلم ) أحسن الناس خلقًا وكان لي أخ يقال له أبو عمير، قال: أحسبه فطيمًا، وكان إذا جاء (أي النبي) قال: يا أبا عمير... إن النداء للطفل بكنيته يرفع معنوياته، ويجعله أشد حبًّا لمعلمه ومربيه، وكلما كانت العلاقة بين الطفل ومؤدبه حسنة كانت النتائج إيجابية وسريعة وعظيمة، فلنقتد بخير الخلق محمد (صلى الله عليه وسلم ) .
ويُحسن النداء (صلى الله عليه وسلم ) للصغار حتى من الخدم:
عن أبي هريرة رضي الله عنه أن رسول اللَّه (صلى الله عليه وسلم ) قال: «لا يقولن أحدكم: عبدي، وأَمَتي كلكم عبيد اللَّه، وكل نسائكم إماء اللَّه، وليقل: غلامي، وجاريتي، وفتاي، وفتاتي»
ويَحْمِلُهم (صلى الله عليه وسلم ) في صلاته:
عن عبد اللَّه بن شداد رضي الله عنه قال: خرج علينا رسول اللَّه (صلى الله عليه وسلم ) في إحدى صلاتي العشاء وهو حامل حسنًا أو حسينًا، فتقدم رسول اللَّه (صلى الله عليه وسلم ) فوضعه ثم كبَّر للصلاة فصلى فسجد بين ظهراني صلاته سجدة أطالها، قال أبي: فرفعت رأسي وإذا الصبي على ظهر رسول اللَّه (صلى الله عليه وسلم ) وهو ساجد، فرجعتُ إلى سجودي، فلما قضى رسول اللَّه (صلى الله عليه وسلم ) الصلاة قال الناس: يا رسول اللَّه، إنك سجدت بين ظهراني صلاتك سجدة أطلتها حتى ظننا أنه قد حدث أمر وأنه يوحَى إليك، قال: «كل ذلك لم يكن، ولكن ابني ارتحلني فكرهت أن أعجله حتى يقضي حاجته»
وعن أبي قتادة الأنصاري أن رسول اللَّه (صلى الله عليه وسلم ) كان يصلي وهو حامل لأمامة بنت زينب بنت رسول اللَّه (صلى الله عليه وسلم ) ، فإذا سجد وضعها وإذا قام حملها
تربية الأطفال (10)
ويقدّر صلي الله عليه وسلم للصغار لعبهم:
ماذا تقولي أتها المربية حينما تعلمي أن الحسين بن عليّ وهو طفل؛ كان عنده جِرْو (كلب صغير) يتسلَّى به، وأن أبا عمير بن أبي طلحة كان عنده عصفور يلعب به، وأن عائشة رضي اللَّه عنها كان عندها لُعَب (بنات) تلعب بها؟ والجواب: أن هذا إقرار من النبي صلي الله عليه وسلم لحاجة الطفل إلى اللعب والترفيه، والتسلية وإشباع الرغبة. وماذا تقولي يا أخت أيضًا حينما تعلم أن النبي صلي الله عليه وسلم لما تزوج عائشة حملت معها لعبها إلى بيت النبي صلي الله عليه وسلم لتلعب بها عنده، بل كان هو يسرِّب إليها صديقاتها لتلعب معها، ولما امتنع جبريل عليه السلام عن دخول بيت النبي صلي الله عليه وسلم بسبب وجود كلب (جرو الحسين)، ولم يكن النبي صلي الله عليه وسلم عالمًا بوجوده في البيت، ومع هذا لم يعنف الحسين أو يزجره أو يحرمه من لعبته، وكذلك طائر أبي عمير؛ لم يمنعه النبي صلي الله عليه وسلم من التلهِّي به مادام أنه لا يعذبه ولا يؤذيه، ماذا تقولي يا أخت حين تعلم هذا كله وأكثر منه في سلوك نبينا نحو احترام كيان الطفل؟! والجواب: أن هذا تقرير منه صلي الله عليه وسلم للعب الصبي؛ لأن اللعب ينمّي عقله، ويوسع مداركه، ويشغِّل حواسه وأحاسيسه. وأن توفير اللعبة المفيدة له يرفع عنه الحرمان، ويعينه على بر الأبوين، ويُدخِل السرور على نفسه، ويستجيب لميوله ويرضيه، فينشأ طفلاً سويًّا.
مضار منع الأطفال من اللعب :
وقد نصح العلماء رحمهم اللَّه أن يُسمَح للطفل باللعب اليسير لا باللعب الشاق بعد الانتهاء من دروسه لتجديد نشاطه، بشرط ألاَّ يُتعب نفسه. وينبغي أن يؤذن له بعد الانصراف من الكُتَّاب أن يلعب لعبًا جميلاً يستريح إليه من تعب المكتب، فإنَّ منْع الصبي من اللعب وإرهاقه بالتعليم دائمًا يميت قلبه، ويبطل ذكاءه، وينغص عليه العيش، حتى يطلب الحيلة في الخلاص منه رأسًا. كما يعوَّد الصبي في بعض النهار المشي والحركة والرياضة، حتى لا يغلب عليه الكسل. إن اللعب للأطفال كالعمل للرجال، والطفل الصحيح الجسم لا يستطيع أن يجلس ساكنًا خمس دقائق؛ فتراه ينقب في كل شيء تقع عليه عينه، ويقلِّبه ويضعه في فمه، وقد يفكه ليبحث عما في داخله. وقد ثبت في علم النفس أن هناك صلة كبيرة بين الجسم والعقل، فما يؤثر في الجسم يؤثر في العقل، وما يؤثر في العقل يؤثر في الجسم، ولكي يستطيع الإنسان القيام بأعباء الحياة يجب أن يكون قويًا في جسمه، سليمًا في عقله.
ولا يفرق صلي الله عليه وسلم جماعتهم وهم يلعبون:يقول أنس رضي الله عنه: خدمتُ رسول اللَّه صلي الله عليه وسلم يومًا حتى إذا رأيت أني قد فرغت من خدمتي، قلت: يقيل رسول اللَّه صلي الله عليه وسلم فخرجت إلى صبيان يلعبون، فجئت أنظر إلى لعبهم، فجاء رسول اللَّه صلي الله عليه وسلم فسلم على الصبيان وهم يلعبون، فدعاني فبعثني إلى حاجة له، فذهبت فيها وجلس صلي الله عليه وسلم في فيء (ظل) حتى أتيته الحديث. والنبي صلي الله عليه وسلم يراعي ظروف الطفل وتلبية رغباته النفسية بعيدًا عن الكبت الذي يُولد الانفجار، فسلَّم أولاً على الصبيان، وهذا تقدير منه لهم، وتعويد على إلقاء السلام وإفشائه، ثم جلس في الظل عندهم ينتظر أنسًا، وكلما رأوه وهو يتابعهم وينظر إليهم ويعجب ببهجتهم وحركتهم؛ فيزدادون فرحًا وسرورًا، فينشأون على حبه، وهذا الذي يريد أن يغرسه فيهم صلي الله عليه وسلم
وينهى صلي الله عليه وسلم عن التفريق بينهم وبين أهليهم:
عن أبي عبد الرحمن الحُبُلِي أن أيوب كان في جيش فَفُرِّق بين الصبيان وبين أمهاتهم، فرآهم يبكون، فجعل يرد الصبي إلى أمه ويقول: إن رسول اللَّه صلي الله عليه وسلم قال: "من فرَّق بين الوالدة وولدها فرَّق اللَّه بينه وبين الأحباء يوم القيامة".
وفي رواية ابن ماجه (2241) كتاب التجارات عن أبي موسى قال: لعن رسول اللَّه صلي الله عليه وسلم من فرَّق بين الوالدة وولدها وبين الأخ وأخيه. بل إن النبي صلي الله عليه وسلم يمنع الجلوس بين الطفل وأبيه في المجالس، وهذا لا شك أدب هام وعظيم من آداب مجالس الأطفال مع الكبار؛ لأن أهل الطفل هم أعرف الناس بميوله وعاداته، وإيجابياته وسلبياته، وخطئه وصوابه، وهم أقدر على توجيهه وإرشاده، كما أن الطفل إذا فرِّق بينه وبين أبيه في المجلس فإنه يشعر بالخجل والحرج ويظل شاردًا بذهنه، منتظرًا متى ينتهي هذا المجلس، فلا يستفيد من جلسته مع الكبار شيئًا، لذلك رحم الرسول صلي الله عليه وسلم شعور الطفل ونفسيته من تلك المعاناة، فقال: "لا يجلس الرجل بين الرجل وابنه في المجلس".
إنه التواضع من سيد البشر، والاهتمام بالنشء لبناء شخصيتهم وربطهم بمعلِّمهم الأعظم وقُدوتهم الأكرم؛ سيدنا محمد صلى الله عليه وسلم .
دمتم في حفظ الرحمن